قد يكون المكان فسيحاً، ممتدّاً، متميّزاً بموقعه في أغنى الأحياء وأرقاها، منفتحاً على أشعة الشمس وضوء النهار، متفرّداً بتصميمه وهندسته المعمارية وتهيئته ونوعيّة أثاثه ومحتوى تزيينه، لكنّ كلّ ذلك لا يضمن له الحيوية والإيجابية والدفء والشعور بالأمان وسكينة النفس. وقد يحظى المكان بكلّ ما هو مادي صرف (الثراء والغنى والثروة)، من دون أن يعني هذا امتلاكَه ما هو روحي وإنساني صرف.
لا نرجو مما سبق دحض فكرة إمكانيّة اجتماع المادي مع اللامادي في نفس المكان، وإنما نبتغي مشاركة القارئ السؤالَ من أجل التدبّر والتفكّر، وإغناء النقاش مع الابتعاد عن الجزم والاختزال.
يجد الإنسان في بيته ملاذ الوجدان، ونقط ارتكاز الانتماء العائلي الممتدّ إلى الأجداد والأسلاف، وفي الخارج يلاحظ اختلاف وتباين الجو العام، وتتكيّف حالته النفسية وتتجاوب مع نوعيّة الجو السائد في كلّ مكان على حدة، ويحسّ، إمّا بالارتياح والتعلّق بالمكان إن حدث التفاعل الكيميائي وانغمس في عناصره الدقيقة، أو بالنفور والاشمئزاز، فيلوذ بالفرار واللاعودة.
أميل إلى الاعتقاد بأنّ الأماكن تتفاعل مع مَن يسكُنونَها ويعتادُونها فترتدي ثوب طباعِهم وخصالِهم، وربّما حقيقةَ ما يسكن دواخلهم من صدق وحبّ وحسن ظنّ وتلقائية، أو من كراهية وغلّ وسوء ظن وارتياب وضغينة. حقيقة، تتفاعل الأمكنة مع أطايب الأرواح، وتُجسّد ما يسكن نفوسهم من جمالية الروح وعفوية السلوك وعمق ونقاء النيّات الحسنة، كما تستقبل الطاقة الجميلة التي تستوطن صدورهم النقية. تغدو الأمكنة مركز جذب واستقبال لمن يبحث ويطلب الطمأنينة والدفء والسكينة والبشارة، وصدق العلاقات الإنسانية المترفّعة عن كلّ مصلحة واعتبار في ملكوت حيّز زمني مبارك، تتغذّى فيه الأرواح وتتجدّد شحنات الأمل وحبّ الحياة والثقة في الانتماء إلى الإنسانية وجميل القيم والمبادئ.
ومن عمق الأرواح الطيّبة تُستمدّ الطاقة والحيوية التي تجود على الزائر بنفحاتِ الراحة والسكينة والأمان والإحساس بالاشتياق إلى العودة إلى المكان فور الابتعاد عنه. نتحدّث هنا عن عناصر لا مادية، قيّمة ومحسوسة وملموسة الأثر والوقع، لا تجامل، ولا تتصنّع، بل تنحو نحو الكرم والعطاء عند توافر نفحات الصدق الخالص. تترفّع إذن الأماكن عن الاعتباراتِ المادية، وعن المجاملات والمصلحة، وتجود على مَن يمنحها العطاء بصدق وإخلاص، وتظلّ بليغة الإحساس، سريعة التفاعل، وأسيرة الوفاء والإخلاص، التزمت الحياد والعدل وتقيّدت بمبدأ المخرجات من جنس المدخلات.
في المقابل، وعلى النقيض من ذلك تتفاعل الأمكنة مع النفوس الجافة، فيتولّد عن ردّة فعلها الجفاء والقنوط والنفور والظلمة وحلكة السلبية والكآبة. يستنكف الزائر عن المكوث بين أحضانها لوقت أطول، ويتجنّب العودة إليها ما استطاع إلى رجائه سبيلاً، تضيق الصدور عند الدخول إليها، وتُغلق الآفاق ويسدّ الأفق، إذ تتحوّل لحظات المكوث بين جدرانها إلى أبدية من المعاناة والضيق والاختناق في جحيمِ سجنٍ، لا انفراج فيه غير الفرار. نحن بصدد أماكن أصابتها لعنة الخبث البشري، وتمكّنت منها سموم الهم والوحشة والجفوة وأصابتها في مقتل، أمكنة لا تجدي معها كلّ محاولات التزيين المادي أو كثرة الزوار واسترسالهم في التردّد على المكان.
تم نشر المقالة على العربي الجديد 11 ابريل 2025 أنقر