نحاول في هذا المقال الغوص في ثنايا عمل روائي بديع للكاتبة الأمريكية بيرل باك وذلك عبر مناقشة المحاور التالية: البطولة، لغة الحوار، الشخصية الثانوية، و ما يستشف من الرواية من عبر وأفكار للتدبر، لعلنا نقترب من تحقيق استيعاب أفضل وأنجع لمحتوى العمل وأبعاده.
مشتركة بين ثلاثة عناصر مفصلية يصعب وضعها في تراتبية معينة: شخصية وانغ لانغ، الأرض، والمناخ.
وانغ لانغ: الفلاح البسيط الذي يقوده طموحه وتمرده على واقعه البئيس إلى النماء والتراكم وامتلاك الأراضي الفلاحية والصعود إلى طبقة أصحاب الجاه. يجسد الرجل حمولة ثقافية ببنيتها الذهنية والنفسية وهموم وأوجاع الطبقة المسحوقة من الفلاحين. في بداية حياته، يقتفي وانغ لانغ أثر والده وأجداده في السير على نفس نمط العيش القائم على الاهتمام بالأرض والزراعة وترقب كرم المطر وتدبير الخوف المزمن من تقلبات المناخ. مع مرور السنين يكتسب الرجل التجربة ويشق دربه نحو تحسين وضعيته المادية و مراكمة الثروة. يمثل وانغ لانغ شخصية متحركة مفعمة بالحيوية في حالة سيرورة وتغير وتطور وتفاعل مع الأحداث والأمكنة والمناخ تبدي ذخيرتها بتدرج مع التقدم والانغماس في تفاصيل الرواية.
الأرض: معبودة الفلاح التي يأتي منها الخير وينبعث من أعماقها الغنى ويرتبط بها إلى حد الموت، كيف لا وهي تحمله على قيد الحياة وتحتضنه بعد الممات. في ثناياها يجد المحتضن لمعاناته وأوجاعه وطموحاتها، وفي حضورها يستمد قيم الحرية والصمود والوفاء والكد والثبات والعطاء بسخاء وبدون شرط باستثناء منح الحب والعناية والاهتمام. ثمة علاقة تفاعل بين الطرفين تنم عن عطاء وأخذ متبادلين ووفاء أبدي إذ يرفض وانغ لانغ بيعها في ذروة الأزمة التي أصابت القرية جراء الجفاف و عجلت بظهور المجاعة. من رائحة الأرض يستنشق هواء حياته وبها يتعافى عند السقوط وينهل التحفيز والأمل. في التعلق بالأرض ضمنيا إحالة على الجذور والانتماء والتفاعل الوجداني بين الفلاح وأرضه.
المناخ: بقساوته حين ينتقل بين الجفاف والفيضان وما يحمله من نوائب وصعوبات تضع الفلاح تحت رحمة تقلباته. حين يكون رحيما يكون المحصول جيدا ويجني الفلاح ثمار جهود سنة من العمل و يتلاشى مؤقتا الخوف من الوقوع في براثن الحاجة والهجرة القسرية بحثا عن لقمة العيش.
لغة حيوية مرنة تنبعث من الحمولة النفسية للشخصيات وانتمائها الجغرافي والرصيد اللغوي المتداول وتتغير حسب السن و الجنس وهموم كل شخصية على حدة وطريقة تفكيرها ووسط نموها مما يمنحها التنوع والتميز. نرى أن الكاتبة تفوقت في فصل لغتها الشخصية عن لغة شخصيات الرواية وأحدثت القطيعة المطلوبة طلبا لاستقلالية بناء الشخصيات و تجنبت حدوث الفجوة بين الشخصية واللغة الموظفة وسهلت انغماس القارئ في كل شخصية من الرواية بمنأى عن الشخصيات الأخرى .
في الواقع هناك عدة شخصيات من قبيل العم وزوجته وأبناء وانغ لانغ ووالده، لكن المقال لا يسمح لنا الخوض في جميع الشخصيات إذ يحتاج الأمر إلى مقال مستقل بذاته، لهذا نقتصر على أهم شخصية ثانوية في الرواية قد يصنفها بعض القراء في خانة الشخصية المحورية.
نتحدث عن أولان الجارية لدى عائلة هوانغ الثرية والتي أصبحت زوجة لوانغ لانغ وحملت معها جميع الخيرات ومع قدومها تحول منحى حياته نحو الأفضل . تبدو هذه الشخصية وكأنها تابعة لشخصية بطل الرواية بمثابة الظل، تظهر وتختفي بهدوء لكنها تهدي عملا جبارا أسس لمسار ارتقاء حياة وانغ لانغ وتهب نفسها لتربية الأبناء والقيام بواجبات المنزل والاعتناء بأبيه الذي بلغ من العمر عتيا علاوة على العمل في الحقل وتقديم الاستشارة ومشاركته أوقات اليسر والعسر دون احتجاج أو شكوى. غير أن الزوج لم يبادلها الوفاء نفسه وارتمى في إغراء عاهرة بعدما تحسنت أموره المادية جعلها تحس بالتنكر لكنها لم تتغير ووفاؤها لم ينبض وظلت قيمها نشطة كما كانت في بداية زواجها.
اشتغال عقد النقص والمكبوت
يعيش وانغ لانغ هوس مراكمة الثروة للثأر مما عاناه من حرمان و احتقار واستصغار في بداية حياته والنيل بطريقته الخاصة من نظرة الناس الدنيوية له بارتقائه إلى مقام الوجهاء والأغنياء. يظل المكبوت نشطا مشتغلا بفعالية حاضرا في قرارات وانغ لانغ وردود فعله وفي حرصه على تربية أولاده وإبعادهم عن الوقوع نفس المعاناة التي مر بها.
سطوة المعاناة
تتسم الرواية بأصناف متعددة من المعاناة التي تتوزع بين المادي والمعنوي والعاطفي والذهني وتظل آثارها دفينة في الدواخل وفي مرورها تختبر حقيقة الذات وثباتها على قناعتها ومعها تختلف مستويات التحمل والمقاومة والصمود والتدبير، فعلى سبيل المثال أوشك وانغ لانغ على بيع فلذة كبده في وقت الشدة والمجاعة. قد تأتي هذه الأصناف من المعاناة تباعا وقد تأتي مجتمعة لكن تحمل في طياتها حسنات المصابرة والجلد والصمود. تركز الرواية على معاناة الفقر والحرمان، معاناة العمل الشاق مقابل الأجر الهزيل، معاناة المجاعة عند حلول الجفاف وانعدام الاختيارات، معاناة الهجرة والانتقال إلى المدينة والعمل المذل في هوامشها، معاناة الحرمان من الحب والمشاعر الجميلة، معاناة تربية الأبناء، و معاناة أولان الجارية في بيت الأسياد بما يحيل ذلك على الحط من كرامة الإنسان وإنسانيته.
من الطموح إلى الجشع
قد يتحول الطموح إلى جشع إذا خضع لسطوة الغرائز البدائية ولم يقنن بالعقلانية والحكمة واليقظة.
الفراغ قاتل
في فترة الفراغ ومع قدرته على سد حاجياته يتجه وانغ نحو المحظور ويقع في إغراء عاهرة في بحث عن إبراز الذات وتحدي عقد النقص واستجابة للاضطراب العاطفي والبرهنة على مقامه ومضاهاة أغنياء المدينة. يفقد وانغ لانغ الصواب وينحو نحو تغيير نمط عيشه والنزوع نحو الإسراف والاستجابة للمطالب المادية للعاهرة وتغيير مظهره والتعامل بجفاء مع زوجته وإهمال عمله.
ثقل التقاليد والعادات
لا يمكنه الإساءة إلى عمه الكسول المقامر اللص الانتهازي ويضطر إلى تحمله والذود عن شرفه خوفا من لعنة القرية.
عذاب الخطيئة
يلاحقه الاحساس بالخطيئة الدفين في اللاشعور والذي يحول جل تصرفاته إلى النقيض، حيث قسوة معاملة الزوجة الوفية، لغة جافة معها، وإبداء عدم الرضا المستمر تجنبا للاستسلام لعذاب الضمير.
قيمة التدبير
تجربة نجاح وانغ لانغ تحيل على أهمية تدبير الوقت والجهد والضغط والمخاوف وضرورة قراءة معطيات الحاضر بدقة و توقع المستقبل.
تم نشر المقالة على العربي الجديد 13 غشت 2024 أنقر